لا ترجع أهمية كتاب “البخلاء” للجاحظ إلى كونه واحدًا من عيون التراث الأدبي العربي فحسب، ولكن تكمن تلك الأهمية في معنى الفرادة، تلك التي يتميّز بها أسلوب الجاحظ، وفي جوهر فكرة الحداثة – التي إن تحققت في عمل أدبي لحقت به في كل العصور – ثم في الجِدّة والإحاطة، وهما صفتان وسمتا مؤلفاته، وجعلتاها منبعًا صافيًا للمتعة وتجدُّد القيمة.
يبين الجاحظ صورةً بانورامية للمجتمع الذي عاش فيه بجميع طبقاته وأفراده. يتحسّسُ تفاصيلَ ملامحهم وخصائصَهم النفسية من غير تصنُّعٍ ولا مداراة. وعبر حكاياتِ الكتاب تنتقلُ النبرةُ من لسانٍ إلى لسان، حيث ينطقُ العامةُ والنَّوْكى والحمقى والصعاليكُ والزُّطُّ واللصوص، وينطق الخلفاءُ والأمراءُ والوزراءُ وقُوّادُ الدولة وكبارُ كُتابها.
وإذا نطقَ كلُّ هؤلاء، فلا غَرْوَ أن تنبحَ كلابُهم، وتعويَ ذئابُهم، وتصيحَ ديوكُهم البخيلة وهي تعدو، كي تسلبَ الحَبَّ من مناقير الدجاج. يتخفى الجدُّ في ثوب الهزل، وينقلب الهزلُ جدًّا، وتتحركُ مفرداتُ اللغة عفيةً حرةً عبر القرون، حتى تتراقصَ حروفُها حيةً نابضةً أمام عيوننا.
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.